عـظـة الميـلاد | Custodia Terrae Sanctae

عـظـة الميـلاد


أيها الإخوة الأعزاء السيد الرئيس محمود عباس 1. أهلا وسهلا بكم وبصحبكم في هذه الكنيسة الجليلة في هذه الليلة المقدسة. لكم ولجهودكم في سبيل التوصل إلى السلام بطرق السلام، نسأل الله أن يمنحكم القوة والثبات في الطريق الصعب الذي سلكتموه. نشكر لكم خياركم الصعب فهو الأفضل. إننا نرافقكم بصلاتنا ودعائنا. ونسأل الله لكم نعمته وسلامه. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء 2. كل عام وأنتم بخير. أتمنى لكم عيد ميلاد مملوءا بالنعمة والحياة الإلهية التي جاء طفل المغارة يحملها إلينا. “صَارَ إنسَانًا وَسَكَنَ بَينَنَا” لنصير معه أبناء الله. صار عمانوئيل كما أسماه النبي أي الله معنا. سار على دروب أرضنا هذه وأصبح رفيق درب لكل واحد منا. هو كلمة الله. هو ملء الكيان والوجود، “بِهِ كُلُّ شَيءٍ كَانَ وَبِدُونِه ِمَا كَانَ شَيءٌ مِمَّا كَانَ”. هو من لا يُرَى. “لَم يَرَهُ أَحَدٌ قَط. الابنُ الوَحِيدُ فِي حِضنِ الآبِ هُوَ الَّذِي أَخبَرَ عَنهُ. وَمِن مِلئِهِ نَحنُ كُلُّنَا أَخَذْنَا” (يوحنا 1؛16-17). عيد الميلاد هو فرصة لنجدِّدَ في كل عام إيماننا فنتعمَّقَ في فهم سر حضور الله بيننا، وسر اتحادنا به، هو الذي “عَرَّفَنَا بِهِ الابن”. يذكِّرنا الميلاد أنه لا يمكن أن تستقيم حياتنا من دون هذه العلاقة المستمرة بملء الكيان واللاهوت الذي ظهر لنا في مثل هذه الليلة المقدسة في صورة طفل وضيع. في فرح الميلاد، نتذكر أن الله الحاضر بيننا اختار أرضنا مقرا لسكناه، مقرا وضيعا، وعاش فيها حياة بَذلٍ ومحبة حتى التضحية الكاملة. قال الكتاب: “هُوَ الَّذِي مَع كَونِهِ فِي صُورَةِ الله… تَجَرَِّدَ مِن ذَاتِهِ مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبدِ وَصَارَ عَلَى مِثَالِ البَشَرِ وَوَضَعَ نَفسَهُ وَأطَاعَ حَتَّى المَوتِ مَوتِ الصَّلِيبِ” (فيلبي2؛6-7). بذل حياته ليمنحنا الحياة الوافرة وليمنحها للجميع من دون تمييز، لأنه جاء للبشرية جمعاء. لأن كل إنسان، من كل عرق وجنس وأمة وقومية ومن كل إيمان ومعتقد، هو ثمين في عين الله، ومن أجله جاء كلمة الله وبذل حياته.

3. رسالة الميلاد لكنائسنا في القدس في هذا العام، وفيه ذكرى الأربعين سنة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، هي رسالة حياة جديدة روحية ودينية، بحسب الوثائق المجمعية المختلفة والآفاق الجديدة التي فتحتها أمام المؤمنين. حياة جديدة للحوار مع الديانات التي نعيش معها، الإسلام واليهودية. وهي أولا رسالة لنجدد إيماننا في داخل نفوسنا، لنحسن الحوار والجوار فنعرفَ كيف نصغي ونعرفُ مَن يحاورنا ونعرِفُ كيف نعرِّفُ نفسَنا له. ثم هو حوار مع مجتمعاتنا وآلامها وآمالها. فالمؤمن هو من ظل في حالة إصغاء مستمرة، يصغي من جهة إلى ما يتكلم به الله، كما يقول صاحب المزامير، ما يتكلم به في كتابه المقدس وفي أحداث حياتنا اليومية، ومن جهة ثانية يصغي إلى هموم الناس وأفراحهم وآمالهم وآلامهم. والرسالة هي أيضا جهد جديد ومثابِر حتى نحوِّل حياتنا إلى مسيرة مستمرة نحو الله وأمامه، فنتعلّمُ كيف نرى دوما مشيئته تعالى وعنايته ومحبته في كل أحداث حياتنا. كثيرون كرروا في هذا العام أيضا: كيف نحتفل بالعيد وكيف نبتهج؟ والأسوار تحاصرنا وقد أصبحنا في سجون، وأجزاء كثيرة من أراضينا مصادرة، وأبناؤنا ما زالوا يُخطَفون في ظلام الليل ويغيَّبون في السجون الإسرائيلية، والدماء ما زالت تُسفَكُ من حولنا، وهتافات الانتقام تتعالى وتملأ آذاننا، بالإضافة إلى عدم الاستقرار والاضطراب في داخل مجتمعنا؟ كيف نحتفل مع هذا كله وكيف نبتهج؟ ونقول: بالضبط، بسبب ذلك كله، بسبب واقع الموت المحيط بنا، حتى نقوى على الصمود ونبقى أحياء ومؤمنين بالله محب البشر، ومحب العدل، وحتى تكون لنا الجرأة لأن نرى في كل إنسان، أيا كان، صورة الله ومعه نبدأ أن نبني منذ اليوم حياة جديدة على هذه الأرض، من أجل ذلك كله يجب أن نستقبل العيد ونستقبل فرحه ونعمته، ولنتذكَّر أن محبة الله وصلاحه سوف يتغلبان يوما على كل هذه الآلام والشرور. 40 سنة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني تدعو كنائس القدس إلى متابعة مسيرة الوحدة التي بدأناها، مسيرة مشتركة مثابِرة، بالرغم من كل تعقيدات أوضاعنا المختلفة. وتدعو الكنائس الكاثوليكية إلى متابعة تجددها التي بدأته مع مسيرة السينودس قبل سنوات ومع المخطط الراعوي الذي انبثق عنه.

4. رسالة الميلاد أخيرا للأوضاع الصعبة التي نعيشها في هذه الأرض، ونحن فيها شعبان يتصارعان وثلاث ديانات، هي رسالة سلام للجميع، بالرغم من كل الاختلافات القومية أو الدينية. هي رسالة تقول للجميع إن كل إنسان ثمين في عين الله خالقه، وإن الدم الذي ما زال يُسفَك بسهولة في هذه الأرض، دمَ كل إنسان، على جانبي الصراع، يصرخ إلى الله طالبا الانتقام وينفذ إلى آذان العلي. ونذكر ضحايا الإرهاب في الأردن قبل أشهر، وجميع ضحايا الصراع هنا في الأرض المقدسة، وجميع الضحايا في لبنان والعراق وفي العالم، وخاصة في كل منطقتنا المرتبطِ سلامُها بسلام القدس، مدينة الله وقلب الإنسانية. وللجميع نقول: إن الله إله محبة أولا وهو أبو الجميع من غير تمييز في العرق أو القومية أو الدين. خلقنا هو جميعا على صورته ومثاله. وأحبنا جميعا. وخلَقْنا نحن حواجز العرق والديانة والقومية وبها حصرنا مقدرتنا على المحبة والبناء معا، وزدنا مقدرتنا على الموت. كرامة الإنسان هي القيمة الأساسية في الحياة. وكذلك الإيمان بالله. والحرية أيضا. والاستقلال والسيادة. ولكنَّ ممارسةً ظالمة أو مفهوما خاطئا للقومية والديانة والعرق والسيادة، يحوِّل كل هذه العوامل اللازمة لحياة الجماعات إلى حواجز ومن ثم إلى عوامل موت لا حياة. وليس لهذا خُلِقْنا. وليس لهذا نبني دولا مستقلة وذات سيادة. على جميع القادة والمسؤولين في هذا البلد أن يراجعوا مواقفهم ليبقوا أمناء للقيم الإنسانية الأساسية. وعليهم أن يجدوا الوسائل التي لا يُضَحُّون معها بالإنسان، بحياته أو كرامته، في سبيل المقتضيات الأمنية.

5. في عيد الميلاد، نصغي إلى الإرادة الإسرائيلية تبحث عن الأمن بمختلف الأعمال العسكرية، وإلى الإرادة الفلسطينية تطلب نهاية الاحتلال والحرية الكاملة. والميلاد يقول للجميع: سلام وأمن وعدل. وكل ذلك أمر ممكن. يبدو أن هناك وضعا سياسيا إسرائيليا وفلسطينيا جديدا بالرغم من التعقيدات والترددات الكثيرة المحيطة به. إلا أن القادة ذوي الإرادة الحسنة والصادقة يمكنهم، إن أرادوا، أن يجعلوا من هذا الزمن الجديد زمن نعمة جديدة: وقفٌ كاملٌ للعنف، ومن كلا الجانبين، وقفٌ كامل لكل انتقام، تحريرُ الأسرى، وقفُ الماضي كله لفترة من الزمن، للإتاحة لمستقبل جديد بأن يبدأ، لخلق أرض جديدة، تضمن فيها القلوب الجديدة الأمن للإسرائيليين، أكثر مما تضمنه الأسوار وسائر الأعمال العسكرية، وتضمن للفلسطينيين نهاية الاحتلال والحرية الكاملة. لقادة شعبينا في هذه الأرض المقدسة، أنتم الإخوة الفلسطينيين الحاضرين هنا وأنتم قادة إسرائيل، الميلاد يقول: إن الطرق في هذه الأرض التي قدسها الله هي طرق السلام المؤسس على العدل والمساواة بين الشعبين، لا أحد يعلو على أحد ولا أحد يخضع لأحد. الكل متساو في الكرامة والحقوق والواجبات.
قال النبي: “لا تخافي يا اورشليم إن الله في وسطك عظيم” (صفنيا 3؛17). إننا نرجو أن نرى اليوم الذي لا يبقى فيه أحد خائفا، ولا يبقى فيه أحد مطاردا، ولا أحد ينتصر على حساب أحد ولا أحد يلغي أحدا في القدس وفي الأرض المقدسة كافة. لأن الله في وسط المدينة ليخلص كلَّ من في المدينة، وليعيد الكرامة لكل إنسان فيها، للإسرائيلي والفلسطيني على السواء، لأننا كلَّنا “خليقتُه وصنع يديه”.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء 6. انتم الحاضرين هنا، وجميعَ المشاركين معنا في صلاتنا، في جميع أبرشيتنا في فلسطين وإسرائيل والأردن وقبرص، وجميعَ سكان هذه الأرض المقدسة، يهودا ومسلمين ومسيحيين ودروزا، وجميعَ الأسرى في سجونهم، والمرضى، والمعذبين وضحايا الصراعات المختلفة في المنطقة، وكلَّ من يصلي معنا في العالم كله، لجميعكم نسأل الله وفرة النعم والسلام والبركة. آمين.
البطريـرك ميشـيل صبـاح بطـريـرك القـدس للاتيـن