في قلب كل مسيحي: يرتفع الصليب المقدس عالياً نحو الله | Custodia Terrae Sanctae

في قلب كل مسيحي: يرتفع الصليب المقدس عالياً نحو الله

القدس، بازيليكا القبر المقدس، 14 أيلول 2011


إحتفل صباح هذا اليوم، 14 أيلول، في القبر المقدس، على مذبح الجلجثة، بكل أبهة وعمق، بعيد إرتفاع الصليب المقدس، وإن هذا التاريخ لجوهري في حياة كل مسيحي، وهو يلخص السر الفصحي برمته، فصح ربنا يسوع المسيح. إحتفل بهذا العيد لأول مرة عام 335، وعلى مرّ العصور، أصبح هذا العيد يشمل أيضاً ذكرى إستعادة الإمبراطور "هيراقلوس" لخشبة الصليب الحقيقي من الفرس، عام 628.

في الغرب، يرافق هذا العيد أعيادٌ أخرى خلال السنة تحتفل فيها الجماعة المسيحية بصليب الرب، نذكر على وجه الخصوص عيد السابع من شهر أيار، وهو عيد لُقيا صليب الربّ على يد القديسة "هيلانة"، وكذلك السجود الإحتفالي للصليب المقدس خلال رتبة الجمعة العظيمة.

أما الروم الأرثوذكس، فإنهم يحتفلون أيضاً بعيد ارتفاع الصليب المقدس في 14 أيلول، وإنه لواحد من أهم الأعياد في التقويم الليتورجي لديهم، الى جانب التطواف بخشبة الصليب المكرم، في 1 آب، والسجود للصليب المقدس في الأحد الثالث من زمن الصوم، إضافة الى التطواف بالصليب يوم الخميس المقدس.

كذلك فإن الجماعة الفرنسيسكانية كانت قد كرمت عيد ارتفاع الصليب المقدس هذا بقداس إحتفالي أقيم في معبد الصليب، التابع للكنيسة اللاتينية، على الجلجثة، رافعين صلاتهم أمام المذبح الذي تعلوه لوحة فسيفسائية مؤثرة تُظهر مشهد الصلب. في هذه المناسبة الخاصة، عرضت على المذبح ذخيرة ثمينة أخذت من خشبة الصليب، وكأنها منتصبة على عرش.

ترأس هذا الاحتفال الأب "أرتيميو فيتوريس"، نائب الحارس، والى جانبه الأب "فيرغوس كلارك"، رئيس دير القبر المقدس، كما والأب "نوئيل موسكات"، مستشار الأرض المقدسة. شارك كذلك في هذا الاحتفال المهيب عدد كبير من الرهبان الفرنسيسكان والكهنة، والرهبان والراهبات المنتمين الى جمعيات رهبانية مختلفة مقيمة في الأرض المقدسة، إضافة الى عدد كبير من المؤمنين، مسيحيين عرب من أهل البلاد، كما وحجاج ومصلين كُثُر، إجتمعوا معا للصلاة في الجلجثة في هذا اليوم المميز.

في ختام القداس الإلهي، نقل الأب "أرتيميو فيتوريس" ذخيرة الصليب المقدس في تطواف مهيب، على ألحان النشيد اللاتيني الشهير (Vexilla Regis) من الجلجثة الى مذبح الظهور، أي ظهور القائم لمريم المجدلية. في هذه اللحظة، هرع المشاركون مقتربين من الذخيرة المقدسة لتقبيلها بكل تعبد وخشوع، أولا الكهنة المشاركون، ومن ثم مئات من المصلين الذين وَدّوا الإشادة بصليب الرب وتكريمه.

إنها لحقيقة، كما أكد عليها الأب "أرتيميو فيتوريس" في عظته، أن "خشبة الصليب هذه، لطالما جذبت اليها المسيحيين الذين أرادوا رؤيتها، لمسها وتقبيلها. إن الصليب، لهو الرمز المسيحي بامتياز، وهو أسمى رموز الهوية المسيحية." بصورة أكثر دقة، فإن حماقة الصليب، " عثار لليهود وحماقة للوثنيين" (1 كورينثوس 1، 23)، قد أضحت علامة على محبة الله، علامة على إتساع محبته هذه، وتعبير عن حبه غير المحدود. لطالما كان الصليب أداة مشينة لقتل المجرمين، لكن مع المسيح، أصبح الصليب بوابة للحياة الأبدية، وبداية للقيامة. على الصليب، رُفِعَ ابن الله فوق كل شيء، وها هو المسيح يجذب معه كل إنسان، في المجد، معيداً للإنسان كمال كرامته وعلاقته الحميمة بالآب (يوحنا 12، 32). إن جميع عناصر الليتورجية المقدسة، منذ أن رفع موسى الحية في البرية (عدد 21، 4 – 9)، حتى النشيد الكريستولوجي (المشيحاني) لبولس الرسول (فيليبي 2: 5 – 11)، والحوار الذي أقامه يسوع مع "نيقوديموس" (يوحنا 3، 13 – 17)، لتعبر عن هذا التوق الى الحياة، الذي يتضمنه سرّ انتصار الصليب وسرّ الخلاص.

في هذه اللحظة بالذات، التي فيها يرتفع الحب، ويرقى الى أسمى قمم التاريخ، فإنه يظهر بكمال إنسانيته، إذ يصل الى أدنى درجات الوجود الإنساني وأكثرها خفاءاً، فأضحى ضعيفاً وعارياً ليلمس شقاء ونجاسات الإنسان فيشفيه. كتب يوحنا بولس الثاني في رسالته الجامعة (Dives in Misericordia) يقول: "إن الصليب لهو أعمق تنازل لله نحو الإنسان، وإليه –خاصة في الأوقات الأكثر صعوبة وألم- ينظر الإنسان وكأنه مصيره المشؤوم. إن الصليب هو لمسة حب أزلي لتلك الجراح المؤلمة للغاية خلال الوجود الأرضي للإنسان."

أخيراً، فإن الصليب هو أيضاً دعوة لإتباع المسيح والإقتداء به، دعوة الى المشاركة في المسؤولية، على ضوء إختيار ما هو جوهري وما من شأنه أن يوظف كل جهد في بناء الخلاص للجميع. إن النفس، التي لطالما كانت مدعوة الى الإتحاد التام بالله، مدعوة هي الأخرى الى المشاركة في هذا الشغف الفدائي لدى المسيح، كي يزول نير الخطيئة الذي يثقل كاهل العالم: "مشاركة في الحزن" تهدف الى "المشاركة في القيمة"، التي تتمتع بها الخليقة ذات القيم العالية.

إن نمط الحياة هذا، بما فيه من تنوع في الدعوات والطرق التي بها يصل الى كماله، لَيُفَسر بصورة تامة مشروع هدية الذات، أن يعطي الشخص ذاته وحياته الى أقصى الحدود، مدركاً بأن ما من تخل مطلق من قبل الآب، بل لقاء مشترك بين الله والإنسان من خلال الألم، من خلال عظمة محبة المسيح على الصليب. كتب "سيمون فايل" يوما يقول: "إن اولائك الذين ينجحون في المحافظة على نفسهم موجهة نحو الله، في حين أن مسماراً ينفذ فيها، هم مُسَمَّرون في مركز الكون بالذات. إنه المركز الحقيقي، الذي لا يقع في الوسط، بل هو خارج المكان والزمان، أي الله. ذلك بالإستناد الى بُعدٍ لا يرتبط بالمكان، وليس هو بالزمان، بل هو بعد خاص. إن هذا المسمار قد أحدث ثقباً في الخليقة، من خلال سماكة الستار الذي يفصل بين الخليقة والخالق، وهي النقطة التي فيها يلتقي ذراعا الصليب."

المقال: Caterina Foppa Pedretti
الصور: Marco Gavasso